الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية هل خلقها وبراها وجعلها موجودة بعد عدمها أم لم تزل معدومة فإن كانت لم تزل معدومة فيجب أن لا يكون شيء من الكونيات موجوداً وهذا مكابر للحس والعقل والشرع ولا يقوله عاقل ولم يقله عاقل. وإن كانت صادرة موجودة بعد عدمها امتنع أن تكون هي إياه لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد. وهذا يبطل الاتحاد ووجب حينئذ أن يكون به موجوداً ليس هو الله بل هو خلقه ومماليكه الثاني أن قولك تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه أو قولك: ظهر الحق فيه أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع مثل قولهم: ظهر الحق وتجلى وهذه مظاهر الحق ومجاليه وهذا مظهر إلهي ومجلى إلهي ونحو ذلك - أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه أو تعني به أن ظهر لخلقه بها وتجلى بها وأنه ما ثم قسم رابع فإن عنيت الأول - وهو قول الاتحادية - فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات والشياطين الكفار هي ذات الله أو هي ودات الله متحدتان أو ذات الله حالة فيها وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا ) وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء. ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئاً بل يجدها سماً نافعاً. وإن عنيت أنه صار ظاهراً متجلياً لها فهذا حقيقة أمر صار معلوماً لها ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده. لكن كلامك في هذا باطل من وجهين: من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات التي لا وجود لها لكونه قد علمها واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلاً. ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة بل بعضها هو الذي يصح منه العلم. وأما إن قلت أن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه فهذا حق وهو دين المسلمين وشهود العارفين لكنك لم تقل هذا لوجهين )أحدهما( أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة لا في حال كونها معدومة معلومة وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة ولا أنه أعطى شيئاً خلقه بل جعلت نفسه هو هي المتجلية له. الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها لا أنه دل بها خلقه وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات والآية مثل العلامة والدلالة كما قال ) إلى قوله. لآيات لقوم يعقلون( وتارة يسميها نفسها آية كما قال تعالى ) فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال علم وعرف بها كان المعنى صحيحاً لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور. وفيه إيهام وإجمال. فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين لا سيما لفظ المتجلي وأن استعماله في التجلي للعين هو الغالب. وهذا مذهب الاتحادية صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه. وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين. بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى فإن اللفظ يصير مشتركاً بين أن تكون ذاته فيها أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي وكلاهما باطل. فإن ذات الله ليست في المخلوقات ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له وإنها آيات له على نفسه وصفاته سبحانه وبحمده كما نطق بذلك كتاب الله. الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها " بأنا " واللفظة التي هي " حقيقة النبوة " و " الروح الإضافي " هذه الأشياء داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة أم ليست داخلة في مسمى أسمائه فإن كان الأول فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له وإن كان الثاني فهذه الأشياء معدومة ليس لها وجود في أنفسها فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة ثابتة لا ثابتة منتفية لا منتفية وهذا فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت " أنا " وحقيقة نبوة وروحاً إضافياً وفعل ذات ومفعول ذات ومعنى وسائط فإن كان جميع ذلك في الله ففيه كفران عظيمان: كون جميع المخلوقات جزءاً من الله وكونه متغيراً هذه التغيرات التي هي من نقص إلى كمال ومن كمال إلى نقص وإن كانت خارجة من ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة ولم يخلقها عندهم خارجة عنه فكيف يكون الحال الوجه الرابع: أن عنده حقيقة النبوة وما معها إما أن يكون شيئاً قائماً بنفسه أو صفة له أو لغيره فإن كان قائماً بنفسه فإما أن يكون هو الله أو غيره فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة وهو حقيقة النبوة وهو الروح الإضافي وقد قال بعد هذا: أنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته فيكون قد جعل نفسه صورة فعله وأعطى محمداً ذاته وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض فمن المعطي ومن المعطى إذا كان أعطى ذاته لغيره وإن كانت هذه الأشياء أعياناً قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أو غيرها من كل ما سوى الله من الأعيان فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب والله خالق كل شيء فهو قد جعل ظهور الحق وصفاً وأنه المسمى باسم الرحمن فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقاً وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين ) وأما أن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة فإما أن تكون صفة لله أو لغيره فإن كان صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته والسجود لله لا لصفاته والدعاء لله لا لصفاته وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم. وهذا تقسيم لا محيص عنه فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها )عقدة حقيقة النبوة( وجعلها صورة علم الحق بنفسه وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق محلاً لتميز صفاته القديمة وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفاً يصف نفسه ويحيط به وهو المسمى باسم الرحمن ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى ) وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر فهذا الحق والطرف الذي لها إلى الحق فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق والوجود والطرف وقد جعل فيما تقدم الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس وهو الحق الذي ظهر فيه واصفاً فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق وهذا تناقض. ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى فقد جعلته ظاهراً وجعلته مظهراً فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة وهذا كفر شنيع فكيف يتصور تكرر وجوده وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجوداً في نفسه وإن عنيت الوضوح والتجلي وليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى إذ العالم بعد لم يخلق وأنت قلت ظهر الحق فيه واصفاً وسميته الرحمن ولم تجعل ظهوره معلوماً ولا مشهوراً فكيف يتصور أن يكون متجلياً لنفسه بعد أن لم يكن متجلياً فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها. وأيضاً فقد قلت: أنه كان متجلياً لنفسه بوحدته فهذا كفر وتناقض. الوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى وتناقضهم في الأقانيم. فإنهم يقولون: الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة وهي إله واحد. والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن ويقولون: هي الوجود والعلم والحياة والقدرة. فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً إلا أن يكون هو الأب وإن كانت جواهر وجب أن لا تكون إلهاً واحداً لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً. وقد يمثلون ذلك بقولنا زيد العالم القادر الحي فهي بكونه عالماً ليس هو بكونه قادراً. فإذا قيل لهم هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة وأنهم لا يقولون ذلك. وأيضاً فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة وإنما يكون هو الموصوف. وأنتم لا تقولون بذاك فما هو الحق لا تقولونه وما تقولونه ليس بحق وقد قال تعالى ) ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة وجعلهم قسماً غير المشركين تارة لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين. وهكذا حال هؤلاء فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غيره ويريدون أن يثبتوا وجود العالم فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له وجعلوه متجلياً لذلك المشهود له فإذا تجلى فيه كان هو المتجلى لا غيره. وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم. وهذا الرجل وابن عربي يشتركان في هذا ولكن يفترقان من وجه آخر. فإن ابن عربي يقول: وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها. فإن شئت قلت هو الحق وإن شئت قلت هو الخلق وإن شئت قلت هو الحق والخلق وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك. وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح حيث قالوا: بأن اللاهوت والناسوت صاراً جوهراً واحداً له اقنومان. وأما التلمساني فإنه لا يثبت بعد ذلك بحال فهو مثل يعاقبة النصارى وهم أكفرهم والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد وقالوا أن اللاهوت به يتدرع الناسوت بعد أن لم يكن متدرعاً به. وهؤلاء قالوا أنه في جميع العالم وأنه لم يزل فقالوا بعموم ذلك ولزومه والنصارى قالوا بخصومه وحدوثه حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص وذكر أن إنكار الأنبياء على عباد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر وهو العابد والمعبود وإن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل لضيق هارون وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة وأن أعظم مظهر فيه هو الهوى فما عبد أعظم من الهوى. لكن ابن عربي يثبت أعياناً ثابتة في العدم. وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط وهذا القول هو الصحيح لكن لا يتم له معه ما صلبه من الاتحاد ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد والقرب إلى الإسلام وإن كان أكثرهم تناقضاً وهذياناً فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر. ومقتضى كلامه هذا أنه جعل وجوده مشروطاً بوجود العالم وإن كان له وجود ما غير العالم كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائماً بالحدقة فعلى هذا يكون الله مفتقراً إلى العالم محتاجاً إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين. وقد قال الله تعالى ) فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته وتفرقت وعدمت كما ينتشر نور العين ويتفرق ويعدم إذا عدم الجفن وقد قال في كتابه ) فمن يمسك السموات وقال في كتابه ) وقال ) وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود " إن الله يمسك السموات والأرض بيده " فمن يكون في قبضته السموات والأرض وكرسيه قد وسع السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وبأمره تقوم السماء والأرض وهو الذي يمسكها أن تزولا أيكون محتاجاً إليهما مفتقراً إليهما إذا زالا تفرق وانتشر وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله أو تظله لما في ذلك من احتياجات إلى مخلوقاته فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر لأن الله غني عن العالمين حي قيوم هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل فكيف بمن يقول أنه مفتقر إلى السموات والأرض وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض تفرق وانتشر وعدم فإن حاجته في الحمل إلى العرش أبعد من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش. ثم يقول هؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم العالم وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما هل كان منتشراً متفرقاً معدوماً ثم لما خلقهما صار موجوداً مجتمعاً هل يقول هذا عاقل فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر مع غاية الجهل والضلال فاختاروا أيهما شئتم: إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك فكلما عدم شيء من ذلك انتقص من نور الحق ويتفرق ويعدم بقدر ما عدم من ذلك وكلما زاد شيء من ذلك زاد نوره واجتمع ووجد. وأما إن عني أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض لكن لا يظهر فيه شيء - فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه " وقال عبد الله بن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه " فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض وغيرهما فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض الوجه السابع: قوله فالعلويات جفنها الفوقاني والسفليات جفنها التحتاني والتفرقة البشرية في السفليات أهداب الجفن الفوقاني والنفس الكلية سوادها والروح الأعظم بياضها. يقال له: فإذا كان العالم هو هذه العين فالعين الأخرى أي شيء هي وبقية الأعضاء أين هي هذا على قولك إن عنيت بالعين المتعين وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين به فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضاً من الله وأجزاء منه وهذا قول هؤلاء الزنادقة والفرعونية الاتحادية الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين. فيقال له: فعلى هذا لم يخلق الله شيئاً ولا هو رب العالمين لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره فخلقه لنفسه محال وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه ولهذا قال تعالى ) فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيراً له. الوجه الثامن: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله وهم دائماً يزيدون وينقصون ويموتون ويحيون وفيهم الكافر والمؤمن والفاجر والبر فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال منتوفة كاشرة فاسدة ويكون المشركون واليهود والنصارى أجفان حقيقته وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء فكيف بمن جعلهم من نفسه. الوجه التاسع: أنه متناقص من حيث جعل الروح بياضها والنفس الكلية سوادها والسموات الجفن الأعلى والأرضون الجفن الأسفل. ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض ليست بين السماء والأرض كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه. الوجه العاشر: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة. وأما الروح فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل وهو أول الصادرات. وسماه هو روحاً وهذا بناه على مذهب الصابئة وليس هذا من دين الحنفاء وقد بينا فساد ذلك في غير هذا الموضع. لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول والنفوس والأفلاك والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونا إياه. فقولهم إنما ينطبق على المعطلة مثل فرعون وحزبه الذي قال ) فهؤلاء إذا قالوا أنه عين السموات والأرض فقد جحد وأما جحده فرعون وأقروا بما أقر به فرعون إلا أن فرعون لم يسمه إلهاً ولم يقل هو الله. وهؤلاء قالوا هذا هو الله. فهم مقرون بالصانع لكن جعلوه هو الصنعة. فهم في الحقيقة معطلون وفي اعتقادهم مقرون وفرعون بالعكس كان منكراً للصانع في الظاهر وكان في الباطن مقراً به. فهو أكفرهم منهم وهم أضل منه وأجهل. ولهذا يعظمونه جداً. الوجه الحادي عشر: قول القائل بل هذا هو الحق الصريح المتبع لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه المتحير في بيداء ضلالته وجهله. فيقال: من الذي قال هذا الحق من الأولين والآخرين وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره الذي هو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس فيه شيء من هذا ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشايخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب فديانتهم تشبه دولته ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيراً من التتار في هذا الوجه. وأما محققوهم وجمهورهم فيجوز عندهم التهود والتنصر والإسلام والإشراك لا يحرمون شيئاً من ذلك بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء ولا يجب عليه شيء ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة وإذا كان أبو بكر الصديق. وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق العالم الرباني الغوث السابع في الشمعة من أنه قال: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام الخ فالكلام عليه من وجوه. أحدها أن تسمية قائل مثل هذا المقال محققاً وعالماً وربانياً عين الضلالة والغواية بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود ولا النصارى ولا عباد الأوثان فإن كان الذي قاله مسلوب العقل كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم وإن كان عاقلاً فجرأة على الله الذي يقول ) الوجه الثاني: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله فإن لفظ العين مشترك بين الشيء وبين العضو المبصر وبين مسميات أخر وإذا قال بعين الشيء فهو من العين التي بمعنى النفس أي تميز بنفسه عن غيره فإذا قال إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر. ثم قال في آخر كلامه: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه. فهذا من العين بمعنى النفس وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان وإنما هذا بمنزلة من قال نبعت العين وفاضت وشربنا منها واغتسلنا ووزنتها في الميزان فوجدتا عشرة مثاقيل وذهبها خالص وسبب هذا أنه كثيراً ما كان يتصرف في حروف بلا معان. الوجه الثالث: أنه تناقض من وجه آخر فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين فإذا قال في آخر كلامه: والله هو نور العين كان الله جزءاً من العين أو صفة له فقد جعل في أول كلامه العالم جزءاً من الله وفي آخر كلامه جعل الله جزء من العالم وكل من القولين كفر بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله ) الوجه الرابع: إنه تناقض من جهة أخرى فإنه إذا قال العين: ما يتعين الله فيه والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام فقد جعله متعيناً في جميع العالم فإذا قال بعدها وهو نور العين بقيت سائر أجزاء العين من الأجفان والأهداب والسواد والبياض لم يتعين فيها فقد جعله متعيناً فيها غير متعين فيها. الوجه الخامس: أن نور العين مفتقر إلى العين محتاج إليها لقيامه بها فإذا كان الله في العالم كالنور في العين وجب أن يكون محتاجاً إلى العالم. واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية الذين يقولون هو في العالم كالماء في الصوفة وكالحياة في الجسم ونحو ذلك ويقولون هو بذاته في كل مكان وهذا قول قدماء الجهمية الذين كفرهم أئمة وقوله أولاً: هو حدقة عين الله يشبه قول الاتحادية فإن الاتحادية يقولون هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة فهو عندهم الوجود واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة ولهذا كان صاحب هذه المقالات متخبطاً لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين. فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية والإسماعيلية مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة وفيهم المتخلي عنها وهؤلاء كذلك لكن أولئك أحذق في الزندقة وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. الوجه السادس: قوله من العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى بحيث لا يظهر فيه شيء أصلاً. وهذا كلام مجمل ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين بين الكافرين والمؤمنين لا هو من المؤمنين ولا من الاتحادية المحضة لكنه قد لبس الحق بالباطل وذلك أن الاتحادية يقولون أن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله واللفظ يصرح به بعضهم وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين فإن هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية وأولئك إنما يصل إلى البلاغ الأكبر الذي هو آخر المراتب خواصهم. ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة أنه كان يقول ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف فقلت له: هذا من أبطل الباطل بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد. وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه مثل قوله أن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء. فيقال له: إذا ارتفعت العلويات والسفليات فما تعني بانبساطه أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان أم تعني أنه ينبسط شيء موجود وما الذي ينبسط حينئذ هو نفس الله أم صفة من صفاته وعلى أي شيء ينبسط وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك لأنك قلت: وإنما قلنا أن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور فلو قطعت أجفان عين الإنسان لتفرق نور عينه وانتشر بحيث لا يرى شيئاً أصلاً فكذلك العلويات والسلفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء أصلاً. وقد قلت: إن الله هو نور العين والروح الأعظم بياضها والنفس الكلية سوادها. ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط فيكون العالم عندك شرطاً في وجود الله فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه وإن أثبت له ذاتاً غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها. وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات وهذا تعطيل محض للصانع وهو قول القونوي والتلمساني وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه وتارة يجعلونه وجوداً قائماً بنفسه ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضاً وجود المخلوقات بمعنى أنه فاض عليها. وهذا أقل كفراً من الأول وأن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه. وي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول. وكذلك كلام هذا فإنه قد يشير إلى هذا المعنى. ثم مع ذلك هل يجعلون وجوده مشروطاً بوجود العالم فيكون محتاجاً إلى العالم أو لا يجعلون قد يقولون هذا وقد يقولون هذا. السابع إنهم يمدحون الضلال والحيرة والظلم والخطأ والعذاب الذي عذب الله به الأمم ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلباً يعلم فساده بضرورات العقول مثل قول صاحب الفصوص: لو أن نوحاً ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهاراً ثم دعاهم إسراراً - إلى أن قال: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم وعلم أنهم إنما لم يجيبيوا دعوته لما فيها من الفرقان والأمر قرآن لا فرقان ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه ونهى عنه ويأتون من الأفك والفرية على الله الإلحاد في أسماء الله وآياته بما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا كقول صاحب الفصوص في فص نوح: " فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره والشخص وحد ) وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وأنهم ) وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب غير واحد من عقلاء الناس وفضلائهم من المشايخ والعلماء. ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله وأنه من أحق الناس بقوله ) وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا. وأما الضلال والحيرة فما مدح لله ذلك قط ولا قول النبي صلى الله عليه وسلم " زدني فيك تحيراً " ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث ولا هو في شيء من كتب الحديث ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث بل ولا من يعرف الله ورسوله وكذلك احتجاجه بقوله ) وهكذا يريد هؤلاء الضالون أن يفعلوا بالمؤمنين يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضربهم ولا ينفعهم وهي المخلوقات والأوثان والأصنام وكل ما عبد من دون الله ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا وقال تعالى ) وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة مخالفة لكتب الله ورسله ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب. " في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه ". قال في فص يوسف - بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص وتناقض في التشبيه: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات فمن حيث هوية الحق هو وجوده ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق فمن حيث أحدية كونه ظلاً هو الحق لأنه الواحد الأحد ومن حيث كثرة الصور هو العالم فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك. وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي وهذا معنى الخيال أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الوجود الحق وليس كذلك في نفس الأمر. ألا تراه في الحس متصلاً بالشخص الذي امتد عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك وما نسبتك إلى الحق وبما أنت حق وبما أنت عالم وسوى وغير وماشا كل هذه الألفاظ. وقال في أول الفصوص بعد )فص حكمة إلهية في كلمة آدمية( وهو )فص حكمة نفثية في كلمة شيئية( وقد قسم العطاء بأمرالله وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال وذكر القسم الذي لإنسان لأن شيئاً هو هبة الله - إلى أن قال: " ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه في حال ثبوته فيعلم علم الله به من أين حصل وما ثم صنف من أهل الله أعلا وأكشف من هذا الصنف فهم الواقفون على سر القدر وهم على قسمين: منهم من يعلم ذلك مجملاً ومنهم من يعلم ذلك مفصلاً والذي يعلمه مفصلاً أعلا وأتم من الذي يعلمه مجملاً فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وغن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى وهو أعلا فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك )أي على أحوال عينه( فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها لأنها نسب ذاتية لا صورة لها فبهذا القدر نقول: أن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم ومن هنا يقول )الله حتى نعلم( وهي كلمة محققة المعنى ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق وهو أعلا وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة لولا أنه أثبت العلم زائداً على الذات فجعل التعلق له لا للذات وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود. ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو اسمائية فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبداً إلا عن تجلي إلهي والتجلي من الذات لا يكون أبداً إلا لصورة استعداد العبد المتجلى به وغير ذلك لا يكون فإذن المتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها فأبرز الله ذلك مثالاً نصبه لتجليه الذتي ليعلم المتجلى له أنه ما رآه وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبداً البتة حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرئي ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة هذا أعظم ما قدر عليه من العلم والأمر كما قلناه وذهبنا إليه. وقد بينا هذا في الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلا من هذا الدرج فما هو ثم أصلاً وما بعده إلا العدم المحض فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها وليست سوى عينه فاختلط الأمر وانبهم فمنا من جهل في علمه فقال والعجز عن درك الإدراك إدراك ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول وهو أعلا القول بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز وهذا هو أعلا عالم بالله. وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا منن مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان والولاية لا تنقطع أبداً. والمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا. وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أساري بدر بالحكم فيهم وفي تأبير النخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة. وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله هنالك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها فتحقق ما ذكرناه. " ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة ذهب ولبنة فضة فلا بد من أن يري نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك للبنتين ليكمل الحائط. " والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه رأى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. " فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله صلى الله عليه وسلم " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلى حين بعث. وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي " فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية مثل نسبة الأنبياء والرسل معه وأنه الولي الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد المراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين بشفاعته حالاً خاصاً ما عمم. وفي هذا لحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية. فإن الرحمن ما شفع عند المتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص. " فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام " فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبنى عليها سائر كلامه فتدبر ما فيه من الكفر الذي ) إحداها أنه أثبت له عينا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجوداً من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده. وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم. الثاني أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد لا من نفسه المقدسة وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك وأن هذا هو سر القدر. فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه ونفى ما استحقه بنفسه من كمال علمه وقدرته ولزوم التجهيل والتعجيز وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال ) والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي الذي هو من لوازم نفسه المقدسة لم يستفد علمه بها منها ) أحدها أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل كونها في الخارج. الثاني أن ذلك مستلزم للإرادة والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام. الثالث أنها صادرة عنه وهو سببها التام والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب. فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه. الرابع أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق خبير يدرك الخفي وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها كما هو غني بنفسه في جميع صفاته. ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها وسمع كلام عباده ونحو ذلك فإنما يدرك ما أبدع وما خلق وما هو مفتقر إليه ومحتاج من جميع وجوهه لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة. فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة الغنية في ثبوتها عنه. وأما جحود قدرته فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم الغنية عنه فقدرته محدودة بها مقصورة عليها مع غناها وثبوت حقائقها بدونه. وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة ولا ينقص منه ذرة ولا يزيد في المطر قطرة ولا ينقص منه قطرة ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه ولا يغير شيئاً من صفاته ولا حركاته ولا سكناته ولا ينقل حجراً عن مقره ولا يحول ماء عن ممره ولا يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً ولا يحرك ساكناً ولا يسكن متحركاً. ففي الحملة لا يقدر إلا على ما وجد لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان. وهذا التجلي والتعجيز الذي ذكره وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين. فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفاداً من الأشياء قبل أن يكون وجودها ولا خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها فإنه يعلم أنواعاً من الممكنات لم يخلقها. فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى هي أيضاً من الممكن الثابت في العدم. فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل ولا إلى تعجيز من هذا الوجه. وإنما قد يقولون المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته فيجعلون المانع أمراً يعود إلى نفسه المقدسة حتى لا يجعلونه ممنوعاً من غيره فأين من لا يجعل له مانعاً من غيره ولا راد لقضائه ممن يجعله ممنوعاً مصدوداً وأين من يجعله عالماً بنفسه ممن يجعله مستفيداً للعلم من غيره وممن هو عني عنه هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم. الثالث أنه رغم أن من الصنف الذي جعله أعلا أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم فيعلمها من حيث علمها الله إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد. الرابع أنه جعل الله عالماً بها بعد أن لم يكن عالماً واتبع المتشابه الذي هو قوله: )حتى يعلم( وزعم أنها كلمة محققة المعنى بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه فهو الله علم ما لم يكن علمه وهذا الفكر ما سبقه إليه كافر فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول أن الله علم ما لم يكن عالماً أما أنه يجعل كل ما تجد لمخلوق من العلم فإنما تجدد لله وأن الله لم يكن عالماً بما علمه كل مخلوق حتى علمه ذلك المخلوق. الخامس أنه زعم أن التجلي الذاتي بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه وضرب المثل بالمرآة فجعل الحق هو المرآة والصورة في المرآة هي صورته. وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق والأعيان كانت ثابتة في العدم فظهر فيها وجود الحق بالمتجلى له والعبد لا يرى الوجود مجرداً عن الذوات ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبداً وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق وما بعده إلا العدم المحض فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها. وذلك لأن العبد لا يري نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق الذي هو وجوده والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات التي بين الأعيان وبين وجود الحق وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم وظهور هذه الأحكام يتجلى الحق في الأعيان والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق التي بها يرى أسماءه وظهور أحكامها فإنه إذا ظهر في الأعيان حصلت النسبة التي بين الوجود والأعيان وهي الأسماء وظهرت أحكامها وهي الأعيان ووجود هذه الأعيان هو الحق فلهذا قال وليست سوى عينه فاختلط الأمر وانبهم. فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان وأحكامها هي الأعيان. لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود لله ولأسمائه ولصفاته وخلقه وأمره وعلى الإلحاد في أسماء الله وآياته فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته الآيات المخلوقة والآيات المتلوة فإنه لم يثبت له اسماً ولا آية إذ ليس إلا وجوداً واحداً وذاك ليس هو اسماً ولا آية والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته ولما أثبتت شيئين فرق بينها الوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم. وهذه حقيقة قوله وسر مذهبه الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله وأنه تقدم بذلك على الصديق الذي جهل فقال: العجز عن الإدراك إدراك وتقدم به على المرسلين الذين علموا ذلك من مشاكته وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها )منها( الكفر بذات الله إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق )ومنها( الكفر بأسماء الله وأنها ليست عنده إلا أمور عدميه فإذا قلنا الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فليس الرب إلا نسبة إلى. السادس أنه قال واختلط الأمر وانبهم أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال. قال: فمنا من جهل علمه فقال العجز عن درك الإدراك إدراك. وهذا الكلام مشهور عندهم ونسبته إلى أبي بكر الصديق فجعله جاهلاً وإن كان هذا اللفظ لم ينقل عن أبي بكر ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحواً من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى وإنما يرسل إرسالاً من جهة من يكثر الخطأ في مراسليهم كما يحكون عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما ". وهذا أيضاً كذب باتفاق أهل المعرفة وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر " فقال أن عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله " فبكى أبو بكر فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا أو كما قال فجعل الناس يقولون: عجباً لهذا الشيخ يبكي إن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه. وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه. وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلي عليه السلام: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس فقال " لا والذي فلق الحبة وبرا النسمة إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة وبهذا ونحو من الأحاديث الصحيحة استدل العلماء على أن ما ذكر عن علي وأهل البيت من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم مثل ما يذكر من الجفر والبطاقة والجدول وغير ذلك وما أثره القرامطة الباطنية عنهم فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره. وكذلك كذب على عليه السلام وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع. وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره. ثم قد يدعون أنهم عرفوها وتكون حقيقتها زندقة وإلحاداً. وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة " حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أحدهما فبثثته فيكم. وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم " وهذا الحديث صحيح لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده ومعرفة الله وتوحيده الذي يختص به أولياؤه ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن بين المسلمين ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار. ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت وغير ذلك لقلتم: كذب أبو هريرة فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم. وكذلك يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره وحديث حذيفة معروف لكن السر الذي لا يعلمه غيره هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كان كانوا في غزوة تبوك. ويقال أنهم كانوا أهموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم فأخبر حذيفة بأعيانهم. ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها. وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة أنه لما ذكر الفتن وأنه أعلم الناس بها بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها ولكن حدث الناس كلهم قال " وكنا أعلمنا أحفظنا ". ومما بين هذا أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة: منهم عبد الله بن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم بايعه وقال " أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه " فقال رجل من الأنصار. يا رسول الله هلا أومأت إلي فقال " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوي ظاهره وباطنه لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنكسة ونحوهم. السابع أنه " قال ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلا عالم بالله. وليس هذا العلم إلا الخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم. حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا - إلى قوله - ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن. ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى. وما أشبهه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل: فخر عليهم السقف من تحتهم أن هذا لا عقل ولا قرآن. وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر. ومخالف للشرع فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلاً. وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدةالوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق وهو تعطيل الصانع حقيقة وجحده وهو القول الذي يظهره فرعون فلم يكفه زعمه أن هذا حق حتى زعم أنه أعلا العلم ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء. فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته. ثم أخذ يبين ذلك فقال: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبياً ولا رسولاً فإن هذا كفر ظاهر فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته يعني وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع وهذه الولاية هي أفضل من النبوة والرسالة ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي وقال في الفصوص في كلمة عزيرية فإذا سمعت أحداً من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول لا أن الولي التابع له أعلا منه فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له ". وإذا حوققوا على ذلك قالوا: إن ولاية النبي فوق نبوته وإن نبوته فوق رسالته لأنه يأخذ بولايته عن الله ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي أدعوه ". وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع منها أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما أدعوه باطل لا أصل له ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الولاية " وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية مثل دعوه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما. ثم أنه تناقض في موضع آخر لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفرداً عن الناس فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر وأبطل ذلك " ومنها " أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية وهذا أيضاً خطأ عند أئمة الطريق فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وما زال محافظاً على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته " ومنها " ما ادعاه من خاتم الأولياء الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلال واضح. فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة. وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين " قال الترمذي حديث حسن وفي صحيح البخاري عن علي عليه السلام أنه قال له ابنه يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا بني أبو بكر " قال: ثم من قال " ثم عمر " وروى بضع وثمانون نفساً عنه أنه قال " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ". وهذا باب واسع وقد قال تعالى: ) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس ابن متى مع قوله ) ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى " وفي صحيح البخاري أيضاً عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ينبغي لعبد أن يكون خيراً من يونس بن متى " وفي لفظ " أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - يعني رسول الله " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ: فيما يرويه عن ربه " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وهذا فيه نهي عام. وأما ما يرويه بعض الناس " لا تفضلوني على يونس بن متى " ويفسره باستواء حال صاحب المعراج وصاحب الحوت فنقل باطل وتفسير باطل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " اثبت ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي فإن الله يقول ) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون وإنما تكون النوافل بعد الفرائض. وقد قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب " اعلم أن لله عليك حقاً بالليل لا يقبله بالنهار وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل وإنها لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة. والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله. وهذا فاسد من وجوه كثيرة بل كفر صريح كما بيناه في غير هذا الموضع. وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا فليس الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم فإن كلما كان الولي أعظم اختصاصاً بالرسول وآخذاً عنه وموافقة له كان أفضل إذ الولي لا يكون ولياً لله إلا بمتابعة الرسول باطناً وظاهراً. فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله. والأولياء وإن كان فيهم محدث كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر " فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر وأبو بكر أفضل منه إذ هو الصديق والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام. ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافاً عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول وترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق وربما يرى رأياً فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة وكان يقول القول فيقال له: أصبت فيقول: ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه. فإذا كان هذا إمام المحدثين فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا - فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة فلا يأخذ إلا شيئاً معصوماً محفوظاً وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه. وبهذا صار جميع الأولياء مفترقين إلى الكتاب والسنة لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل وإن كانوا مجتهدين فيه والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم ويغفر لهم خطأهم. ومعلوم أن السابقين الأولين أعظم اهتداء واتباعاً للآثار النبوية فهم أعظم إيماناً وتقوى. وأما آخر والحديث الذي يروى " مثل أمتي كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أو آخره " قد تكلم في إسناده وبتقدير صحته إنما معناه بما في آخر الأمة من يقارب أولها حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب مع القطع بأن الأول خير من الآخر ولهذا قال " لا يدرى " ومعلوم أن هذا السلب ليس عاماً لها فإنه لا بد أن يكون معلوماً أيهما أفضل. ثم أن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف وقد ادعاها غير واحد ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى كما ادعاها صاحب الفصوص وتابعه صاحب الكلام في الحروف وشيخ من أتباعهم كان بدمشق وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوج ابنته بعيسى بن مريم وأنه خاتم الأولياء. ويدعي هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح. ثم صاحب الفصوص وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة والنبي يأخذ بواسطة الملك فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة وهذا باطل وكذب فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه وإذا كان محدثاً قد ألقي إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة. وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه: من وراء حجاب كما كلم موسى وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء وبالإيحاء وهذا فيه للولي نصيب وأما المرتبتان الأوليان فإنهما للأنبياء خاصة والأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة ويكون هذا الأخذ أعلى وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى. وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فبنوا على أصلهم الفاسد: أن الله هو الوجود المطلق الثابت لكل موجود وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر - وإن كانت من وساوس الشيطان - يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة وأنهم يكلمون كما كلم موسى بن عمران وفيهم من يزعمون أن حالهم من حال موسى ابن عمران لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة وهم على زعمهم يسمعون الخطاب من حي ناطق كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد وإنما الحجاب متصل به فإذا ارتفع شاهد الحق وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه من الوجود المطلق الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم أو لا وجود له إلى وجود المخلوقات. هذا هو التعطيل للرب تعالى ولكتبه ولرسله والبدع دهليز الكفر والنفاق كما أن التشيع دهليز الرفض والرفض دهليز القرمطة والتعطيل فالكلام الذي فيه تجهم دهليز الزندقة والتعطيل. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه. وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس فعائشة أنكرت الرؤية وابن عباس ثبت عنه صحيح مسلم أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين. وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره أنه أثبت رؤيته بفؤاده. وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية فالنفي يقول به متكلمة الجهمية والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية كالاتحادية وطائفة من غيرهم وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات كما يقول ابن سبعين: عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى. ونحو ذلك لأن مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح. ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه إن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي ولا غيره من المشايخ المعروفين بل الرجل أجل قدراً وأعظم إيماناً من أن يفتري هذا الكفر الصريح ولكن أخطأ شبراً ففرعوا على خطئه ما صار كفراً. وأعظم من ذلك زعمه أن الأولياء والرسل من حيث ولا يتهم تابعون لخاتم الأولياء وأخذوا من مشكاته فهذا باطل بالعقل والدين فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر والرسل لا يأخذون من غيرهم. وأعظم من ذلك أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله الذي هو أشرف علومهم وأظهر من ذلك أن جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق. فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة. واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر وتابير النخل فهل يقول مسلم أن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى وأن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك ثم ما قنع بذلك حتى قال: فما يلزم الكامل أن يكون له التقديم في كل علم وكل مرتبة وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله هنالك مطالبهم. فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن تقدمه عليه بالعلم بالله وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط. وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة وغالية المتصوفة وغالية المتكلمة الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل كالعلم بالله ونحو ذلك وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم. وقد يقولون أن الشرائع قوانين عدلية وضعت لمصلحة الدنيا فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء. وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا من أعظم الكفر والضلال وكان من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق وصاروا في أخبار الرسل تارة يكذبونها وتارة يحرفونها وتارة يفوضونها وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم. ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم إلا الغالية منهم كما وقد كان عندهم شيخ من أجهل الناس كان يعظمه طائفة من الأعاجم ويقال أنه خاتم الأولياء يزعم أنه يفسر العلم بوجهين وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تلقاه من صاحب الفصوص وأمثال هذا في هذه الأوقات كثير وسبب ضلال المتفلسفة وأهل التصوف والكلام الموافقة لضلالهم وليس هذا موضع الأطناب في بيان ضلال هذا وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء. فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر صاحب الفصوص فظاهر ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك ولكن يرى أن له طريقاً إلى الله غير اتباع الرسول ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول ويحتجون بقصة موسى والخضر. ولا حجة فيها لوجهين )أحدهما( أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل ولهذا جاء في الحديث الصحيح " أن موسى لما سلم على الخضر قال وأنى بأرضك السلام قال أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل قال نعم قال إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه " ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة " وقد قال تعالى ) فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين: انسهم وجنهم عربهم وعجمهم ملوكهم وزهادهم الأولياء منهم وغير الأولياء. فليس لأحد الخروج عن مبايعته باطناً وظاهراً ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل لا في العلوم ولا الأعمال وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى وأما موسى فلم يكن مبعوثاً إلى الخضر. الثاني أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك ولو كان مخالفاً لشريعته لم يوافقه بحال. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت. وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم. وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين. الوجه الثامن أنه قال: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان )أحدهما( علم الشريعة وهو يأخذه عن الله كما يأخذ النبي فإنه قال والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على عليه فلا بد أن يراه هكذا. وهذا الذي زعمه من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع اتباعهم فيه من الاتحاد ما لا يخفى على من يؤمن بالله ورسله فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله ويقول أنه أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه فينبغي موافقته لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي. وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحو ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة وكان يقول مؤذنه أشهد أن والنوع الثاني علم الحقيقة وهو فيه فرق الرسول كما قال هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية وهو علم الباطن والحقيقة هو فيه فوق الرسول لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحي به إلى الرسول والرسول يأخذه من الملك وهو أخذه من فوق الملك من حيث يأخذه الملك وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلا من الرسول في علم من العلوم الإلهية وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله. ثم قال: فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع. ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى لا ترضى أن تجعل أحداً من المؤمنين فوق موسى وعيسى وهذا يزعم هو وأمثاله ممن يدعي أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل وأعلم بالله من جميع الرسل وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا وإنما يقول مثل هذا غلاتهم وأهل الحق منهم الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين. التاسع قوله: فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين ليوطن نفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء وكلاهما ضلال فإن الرسل ليس منهم من يأخذ من آخر إلا من كان مأموراً باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل والرسل الذين فيهم الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى ) وأما إبراهيم فلم يأخذ من موسى وعيسى ونوح لم يأخذ عن إبراهيم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد وأن بشروا به وآمنوا به كما قال تعالى ) العاشر قوله: فإن تحقيقه موجود وهو قوله " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " بخلاف غيره من الأنبياء وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين. - كذب واضح مخالف لإجماع أئمة الدين وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها ولا تكون موجود بحقائقها إلا حين توجد ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم ولم تكن حقيقته صلى الله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها لكن كان ظهور خبره واسمه مشهوراً أعظم من غيره فإنه كان مكتوباً في التوراة والإنجيل وقبل ذلك كما روى الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني لعبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نوراً ضاءت له قصور الشام " وحديث ميسرة الفجر: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً وفي لفظ متى كتبت نبياً قال " وآدم بين الروح والجسد " وهذا لفظ الحديث. وأما قوله " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " فلا أصل له لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ وهو باطل فإنه لم يكن بين الماء والطين إذ الطين ماء وتراب ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه كتب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقدرها كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح " وروي أنه كتب اسمه على ساق العرش ومصاريع الجنة فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة وما يروي في هذا الباب من الأحاديث هو من هذا الجنس مثل كونه كان نوراً يسبح حول العرش أو كوكباً يطلع في السماء ونحو ذلك كما ذكره ابن حمويه صاحب ابن عربي وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين وابن سبعين وأمثالهم ممن يروي الموضوعات المكذوبات باتفاق أهل المعرفة بالحديث. فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى أنه اجتمع بي قديماً شيخ معظم من أصحاب ابن حمويه يسميه أصحابه سلطان الأقطاب وتفاوضنا في كتاب الفصوص وكان معظماً له ولصاحبه حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب. الحادي عشر قوله: وخاتم الولاية كان ولياً وآدم بين الماء والطين - إلى قوله - فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية كنسبة الأولياء والرسل معه - إلى آخر كلامه - ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله الذي هو أعلا العلم وهو وحدة الوجود أنه مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين حالاً خاصاً ما عمم - إلى قوله - ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص فكذب على رسول اله صلى الله عليه وسلم في قوله: إنه قال: سيد ولد آدم في الشفاعة فقط لا في بقية المراتب " بخلاف الختم المفتري فإنه سيد في العلم بالله وغير ذلك من المقامات. ولقد كنت أقول: لو كان المخاطب لنا ممن يفضل إبراهيم أو موسى أو عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم لكانت مصيبة عظيمة لا يحملها المسلمون فكيف بمن يفضل رجلاً من أمة محمد على محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة. وهذا المفضل من أضل بني آدم وأبعدهم عن الصراط المستقيم وإن كان له كلام كثير ومصنفات متعددة وله معرفة بأشياء كثيرة وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة والمتصوفة والمتكلمة والمتفقهة والعامة فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالاً عند أهل الكلام والإيمان والله أعلم. وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر والتنقيص بالرسل والاستخفاف بهم والغض منهم والكفر بهم وبما جاؤوا به ما لا يخفى على مؤمن وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري رحمة الله عليه يقول: رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله. ولقد صدق فيما قال ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام: هو شيخ سوء مقبوح كذاب يقول بقدم العلم ولا يحرم فرجاً - هو حق عنه ولكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق وإلا فليس عنده رب وعالم كما تقوله الفلاسفة الإلهيون الذين يقولون بواجب الوجود وبالعالم الممكن الوجود بل عنده وجود العالم هو وجود الله وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية الذين ينكرون وجود الصانع مطلقاً ولا يقرون بوجود واجب غير العالم كما ذكر الله عن فرعون وذويه وقوله مطابق لقول فرعون لكن فرعون لم يكن مقراً بالله وهؤلاء يقرون بالله ولكن يفسرونه بالوجود الذي أقر به فرعون فهم أجهل من فرعون وأضل وفرعون أكفر منهم في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم كما قال تعالى ) فأما الإيمان بالله فزعموا أن وجوده وجود العالم ليس للعالم صانع غير العالم وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل ومنهم من يأخذ العلم بالله الذي هو التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله. وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال: فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وبالوعيد الحق عين تعاين وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم يباين وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه: إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أني يكلف وفي موضع آخر فذاك ميت رأيته بخطه. وهذا مبني على أصله فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف وعلى أصله هو المكلف كما يقولون أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك: إلي رسولاً كنت مني مرسلاً وذاتي بآياتي علي استدلت ومضمونها هو القول بوحدة الوجود ومذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال: لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل عابد ساجد إلى حقيقة الجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي فلم تكن صلاتي لغيري في أداكل ركعة إلى قوله: وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت ومثل هذا كثير والله أعلم. وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي أبو الحسن علي بن قرباص أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني فوجده يصنف كتاباً فقال: ما هذا فقال هذا في الرد على ابن سبعين وابن الفارض وأبي الحسن الجربي والعفيف التلمساني وحدثني عن جمال الدين بن واصل وشمس الدين الأصبهاني أنهما كانا ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه ويردان عليه وأن الأصبهاني رأى معه كتاباً من كتبه فقال: إن اقتنيت شيئاً من كتبه فلا تجيء إلي أو ما هذا معناه. وأن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة التي انقلبت عن جوار معلم معها فقال: والله الذي لا إله إلا هو يكذب ولقد بر في يمينه. وحدثني صاحبنا الفاضل أبو بكر بن سالار عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد شيخ وقته عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام أنهم سألوه عن ابن عربي لما دخل مصر فقال: شيخ سوء مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً وكان تقي الدين يقول: هو صاحب خيال واسع. حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء ممن سمع كلام ابن دقيق العيد. وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال: كان يستحل الكذب هذا أحسن أحواله وحدثني الشيخ العالم العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئاً فرأيته مخالفاً للكتاب والسنة فلما ذكرت ذلك له قال القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد قال فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت والكل واحدد قال لا فرق بين ذلك عندنا وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراماً فقلنا هو حرام عليهم عندهم وأما عندنا فما ثم حرام. وحدثني كمال الدين بن المراغي أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال: وكنت أقرأ عليه في ذلك فإنهم كانوا قد عظموه عندنا ونحن مشتاقون إلى معرفة فصوص الحكم فلما صار يشرحه لي قول هذا خلاف القرآن والأحاديث فقال ارم هذا كله خلف الباب واحضر بقلب صاف حتى تتلقى هذا التوحيد - أو كما قال - ثم خاف أن أشيع ذلك عنه فجاء إلي باكياً وقال استر عني ما سمعته مني. وحدثني أيضاً كمال الدين أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي تلميذ الشيخ أبي الحسن فقال عن التلمساني: هؤلاء كفار هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع قال وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده فقلت أنا لا آخذ عنه هذا وإنما أتعلم منه أدب الخلوة قال لي: مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان على يد صاحب الأتون والزبال فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان كيف يكون حاله عند السلطان وحدثنا أيضاً قال قال لي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد إنما استولت التتار على بلاد المشرق لظهور الفلسفة فيهم وضعف الشريعة فقلت له ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد وهو شر من مذهب الفلاسفة فقال قول هؤلاء لا يقوله عاقل بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء - يعني أن فساده ظاهر فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء بخلاف مقالة الفلاسفة فإن فيها شيئاً من المعقول وإن كانت فاسدة. وحدثني تاج الدين الأنباري الفقيه المصري الفاضل أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت ابن عربي شيخاً مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله وكل نبي أرسله الله. وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي والخسر وشاهى أن كلاهما زنديق - أو كلاماً هذا معناه - وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد: إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت نفسي بها زمناً واليوم أحسبها أضغاث أحلام وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولن كيف الطريق أين الطريق وحدثني شهاب الدين المزي عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء - أو قال - فعلمت أن هذا وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول ابن عربي شيطان وعنه أنه كان يقول عن الحريري أنه شيطان وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين الباربلي أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين.
|